كان يا مكان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، كنّا نرتحل بين عوالم ألف ليلة وليلة، ونعيش لياليًا فاتنة بين قصص السحر والجن حتى الثمالة، كبيرُنا وصغيرُنا، نساؤنا ورجالنا، نعشق الخيال ونسبر أغواره بلا نهاية. لسنا وحدنا فقط، فهناك “ملحمة غلغاميش” لمن سبقونا في بلاد ما بين النهرين، و”رستم” في بلاد فارس، و”كليلة ودمنة” في الهند، وقصص “كاميلوت والملك آرثر” لدى الإنجليز، والقائمة تطول بلا نهاية لدى جميع شعوب المعمورة. فكل ثقافة لديها قصصها وأساطيرها المفعمة بالخيال، أو كما تسمى في عصرنا الحالي “الفانتازيا”.
كان الخيال وما زال جزءًا من أنفسنا، وكأننا مفطورون عليه، بل هو كذلك، لكن في بدايات عالمنا الحديث وقبل بضع عقود “شيءٌ ما” حدث، لا أعلم ما هو ولماذا؟ وكأن هناك كيان شرير أخذ يسلخ منا شغف الخيال (الفانتازيا) والأساطير عندما نكبر، وبسبب ذلك حصلت عدة أشياء.
إحداها “القراءة” فعندما كنت في سن المراهقة قبل عشرين سنة، لم يكن هناك نتاج فكري عربي موجه إلينا، فنحن نحب الخيال، لم نكبر بعد ويسلخ ذلك الكيان الشرير منّا فطرتنا، وكنت أتساءل، لماذا لا يكتب لنا أحد؟ وكأن القراءة كانت حصرًا للبالغين، فنحن لن نقرأ لدوستويفسكي أو مجموعة مدن الملح مثلًا، فكتب الكبار مملة جدًا بالنسبة لنا في عمرنا ذاك، كأن بها لغزٌ كبير علينا حله لنستطيع قراءتها، أو كما قال “نيل غايمان” في روايته “المحيط في نهاية الدرب”:
” كنتُ أُحِبُّ الأساطير، فهي لم تكن قِصَصًا للكِبار ولا الأطفال، بل كانت أفضل من ذلك. لقد كانت موجودةً فحسب.
لم تكن قِصَص الكِبار مُقنِعةً على الإطلاق، وكانت أحداثها شديدة البطء في بدايتها، وجعلَتني أشعُرُ كأن هناك أسرارًا ما، أسرارًا ماسونيَّة أسطوريَّة لعالم البالِغين. لماذا لا يرغب الكِبار في القراءة عن أرض نارنيا وعن الجُزُر الخفيَّة والمُهَرِّبين والجِنِّيَّات الخطرات؟“
كان النتاج الفكري الوحيد الموجه إلينا (في ذلك الوقت) هو رواية مترجمة “هاري بوتر”، وبصراحة أحمد الله دائمًا لأنها أول رواية قرأتها في حياتي، فقد كان لها التأثير الأكبر عليّ، رواية حيّة في كل جوانبها، لوحات تتحدث، غرف تتغير، سلالم تتحرك، مئات الشخصيات والكثير من السحر، كل عنصر فيها ينبض ويصرخ بالحياة، نعم لدينا الخيال والعقل، نستطيع استيعاب كل هذا وأكثر، لم تكن موجهة لنا فقط، بل لجميع البشر والأعمار، سواء كانوا أطفالًا في الخامسة أو عجائز قاربوا المئة من العمر، سيعيشون ويحلمون في كل جزءٍ فيها. وبسبب رواية “هاري بوتر” استيقظ جيل كامل للقراءة والكتابة في جميع شعوب العالم وأنا منهم!
هناك جملة دائمًا أرددها، “أدب الأطفال الحقيقي، هو من يستمتع به الصغار والكبار على حدٍ سواء”. لنأخذ فلم “الأسد الملك” كمثال، بكى فيه الكبار قبل الصغار، “عالم نارنيا” قرأتها بعمر الثلاثين وانغمست فيها واستمتعت بها حتى آخر قطرة، بل حزنت جدًا عندما انتهيت منها، وهي موجهة للأطفال أساسًا. مما يذكرني بكلام الروائي الكبير محمد المنسي في أدب الأطفال: “تعمل قصص بسيطة لكن ليست ساذجة، هناك من يخلط بين البساطة والسذاجة، قصة الطفل يجب أن تنفهم كما يحبها الأطفال ويجب أن تعجب الكبار“.
قصص الأطفال وتسطيحها لأنها خيالية، هذه أكبر جريمة حدثت في أدب الأطفال، بسببها تم إنتاج قصص بلهاء وغبية تحت عنوان “أدب الطفل” بالرغم من أن الطفل العادي بعمر خمس سنوات يستطيع فهم حبكات القصص المعقدة، مثل العودة إلى الزمن والعوالم المتوازية وما يترتب عليها من تعقيدات وأحداث، بل يستطيع أن يستوعب بعض المفاهيم المعقدة مثل الخيانة والتضحية وآلامها، ويستطيع أن ينتقد الأحداث ويقترح حلول بديلة، جرب فقط أن تتحدث مع طفل بعد مشاهدته لفلم أو حلقة وسترى العجب العجاب. أذكر كلمة لطارق العربي طرقان: “لا تستخف بعقل الطفل أبدًا“. فكلمات أغانيه ما زلنا نحفظها منذ نعومة أظفارنا، لأنها لم تستخف بنا أبدًا، كلمات جميلة وسهلة وذات معاني إنسانية راقية. أنا الآن عمري أربعة وثلاثون، صيدلي متخرج بمعدل عالي في تخصص صعب، ومتزوج وأب وما زلت أثمن تلك الأغاني وأسمعها حتى الآن “ما أجمل أن تسقي الشجرة لتضاهي في الحسن القمر، أن تغرس في اليائس أملًا زرعًا يعطي الأثمار“.
حتى وصلنا إلى مرحلة يخجل بعض الكتاب فيها أن يصنف روايته “فانتازيا” بل يستخدمون مصطلحات مثل: “خيالية واقعية”، كي لا يتم التسفيه بأعمالهم من قبل بعض “المثقفين” و “الأدباء”. لكن أليست كل القصص يجب أن تكون واقعية في عالمها الخاص؟ أليست جميع القصص محض خيال؟ بل شرط من شروط نجاح كل قصة أو رواية أن يقتنع القارئ بواقعيتها ويعيش مع أحداثها كأنها حدثت حقًا، حتى لو كانت على لسان حيوانات مثل “كليلة ودمنة” أو “عالم نارنيا” وإلا فالقصة سيئة جدًا، بل لا تستحق أن تسمى “قصة”. لذا لا أعتقد بوجود مثل هذه التصنيفات، بل هي فعلًا لا توجد في أرض الواقع.
الطريف في الأمر أن هؤلاء بعض “المثقفين” و “الأدباء” الذين يسطحون ويسفهون الفانتازيا، في نهاية اليوم يشاهدون حلقة من “لعبة العروش” وفي اليوم التالي يناقشونها مناقشة أدبية ثقافية.
نحن نعيش الآن في بداية فترة أحب أن أسميها بـ “ثورة الخيال” أو “ثورة الفانتازيا”، نثور على ذلك “الكيان الشرير” بخيالنا في الكتب والمكتبات. الروايات الخيالية أصبحت هي الأكثر مبيعًا، والمسلسلات الخيالية هي الأكثر مشاهدة، فكتب وكتّاب الخيال بدأت تنتشر في كل العالم، حتى في عالمنا العربي. أذكر رحلاتي لمعرض الكتاب سابقًا والفرق بينهما الآن كبير، سابقًا كانت نسبة المراهقين والأطفال قليلة ومعظمها يقتصر على الرحلات المدرسية، أما الآن فالغالبية العظمى من المراهقين واليافعين والأطفال بسبب توفر المحتوى الذي يحبونه ويعشقونه وهو “الخيال”.
قال لي أحد الزملاء من باب النقاش وبحسن نية لأنه يريد أن يفهم ويتعلم: لماذا أقرأ الوهم؟ فأنا موجود في عالم حقيقي، لماذا أكذب على نفسي؟ أجبته: اقرأ عالم نارنيا، شاهد كيف أوصل للصغار فكرة يوم القيامة وإعادة البعث والنفخ في الصور ومعنى الموت والتضحية والإيمان مع الإلحاد عن طريق حيوانات وأشجار تتحدث، عالم نارنيا عبقري جدًا يعلم الأطفال الكثير، ليس وهمًا أبدًا، بل يصور الواقع كما يحبه الأطفال ويصل إلى قلوبنا نحن الكبار قبل قلوبهم.
ختامًا: لماذا أكتب عن الخيال (الفانتازيا):
بسب ندرة توفر نتاج أدبي مخصص لنا نحن الفئة العظمى من المجتمع (المراهقين واليافعين)، وأيضًا بسبب شبه انعدام الفانتازيا باللغة العربية تحمست أن أكتب، أكتب الخيال، أكتب عن التنانين والسحر والجنيات، ليس قصة ممتعة وحسب، بل قصة لها وزن وتحترم العقول، قصة تحمل معنى وتزرع فكرة لتزهر لاحقًا، أردت أن أُثري “الفانتازيا” في عالمنا العربي، قلت ربما أكون أول من يكتب وينشر في المكتبات رواية خيالية بعالَم جديد وكبير من الصفر بالعربية، لكني تأخرت كثيرًا، لأني غير متفرغ للكتابة وأيضًا صنع عالم من الصفر يحتاج لسنوات من العمل والجهد المتواصل، لكن تأخري على عكس المتوقع كان إيجابيًا، فكلما تأخرت صقلت عالَمي أكثر، وتعلمت أكثر، وقرأت أكثر، ثم تعددت أسباب الكتابة، صرت أكتب لأبحث عن بعض الإجابات التي تدور في خلدي، وأناقش بعض أفكاري بنفسي، وأحيانًا أكتب لأني أريد أن أصل لمشاعر الناس، وأريد أن أحكي لهم قصة، قصة لن ينسونها أبدًا، تلك هي “عالم آرميا”.
مقالة جيدة
أوافقك في مشروعية الكتابة في أي مجال بما فيها الفنتازيا والتي أرى أنه عالم يمكن أن يقدم الكثير ولكن بشروط من أبرزها احترام عقل القارئ وذلك عن طريق الألتزام بالقوانين التي وضعها الكاتب لعالمه وعدم مخالفة المنطق وفق إطار ذلك العالم أذكر على سبيل المثال أن كاتبا في نفس المجال صور شخصية من شخصياتها الساحرات أنها تمتلك طلسما ينقلها من مكان لمكان بلمح البصر ثم وجدناها في مشهد لاحق تتكبد مشقة صعود جبل فلماذا لم تستخدم الطلسم؟
أشياء صغيرة لكن من شأنها أن تهدم عالمك إن لم تمنطق بطريقة مقنعة وإلا ستكشف أنك غير ملم بجوانب عالمك عمليا.
الفنتازيا عالم جميل لكن يجب أن يقدم باهتمام وحرص ودقة.
تحية عطرة لقلمك الواعد.